رياضة بطولة الفقر و"الميزيريا"
اجتمعت نوادي الرابطة المحترفة الأولى في الأسبوع الماضي وقرّرت تجميد نشاط البطولة احتجاجا على عدم صرف ما تخلّد بذمّة سلطة الإشراف لفائدتها من مستحقات تبيّن أنها لا تتجاوز 110 آلاف دينار، لا نعتقد صراحة أنها كافية لدفع أجور اللاعبين والمدربين خصوصا أمام الرواتب المنتفخة التي يتقاضونها شهريا.
اليوم تطالب النوادي بالدعم المالي وهذا من حقها مادامت عاجزة عن تسيير وتصريف شؤونها خصوصا في ظل التراجع الكبير للعائدات التي كانت متأتية من الولايات والبلديات والمؤسسات العمومية والخاصة نتيجة المرحلة الاقتصادية الحرجة التي تمرّ بها البلاد وتعطّل عجلة النموّ وارتفاع المعيشة وتراجع الدينار وتقلّص السيولة المالية في البنوك وغير ذلك من العوامل التي زادت في أوجاع النوادي وفقرها وأزماتها المالية.. لتتجلّى حقيقة طالما قلناها وهي إن بطولتنا وكرتنا بشكل عام هي كرة الفقر و»الميزيريا» والتسوّل والانحراف بمختلف أنواعه.
لقد ثبت اليوم أن الميزانيات التي تُخصص للجمعيات من أجل بطولة لا تسمن ولا تغني من جوع ومقابلات تتحوَّل أغلبها إلى حلبات ملاكمة وتنتهي في مراكز الشرطة، هي ميزانيات منتفخة في أغلب الأحيان تتجاوز إمكاناتنا المالية كدولة ليس لها موارد بترولية، ولها أولويات - تبدو ظاهريا- أكثر أهمية مثل التشغيل ومقاومة الاٍرهاب والقضاء على الفقر.. وبالتالي فإن المطالبة بالتمويل العمومي كشرط لاستئناف نشاط البطولة يُؤكد عجز المسيرين الرياضيين على إيجاد الحلول للمشاكل المالية التي تتخبط فيها جمعياتهم ويُؤكد أيضا بأن معضلة الكرة التونسية أكبر من أن تُحلٌ بمثل هذه الحلول المُؤقتة أو المنح العابرة التي تتبرّع بها الدولة، بل يحتاج الأمر إلى وقفة تأمُّل وإجراء معاينة شاملة للوضع الكروي في نوادينا لوضع خطة عمل واضحة واستراتيجية تمويل معقولة وشفافة تتماشى مع حجم كرتنا ومستوى لاعبينا ومسيرينا وحكامنا وملاعبنا.. علاوة على ذلك أصبح من الضروري تنقيح قوانين الجمعيات وتحويلها إلى شركات قادرة على الاستثمار في المشاريع المربحة لتوفير عائدات مالية قارة، ولو أن الربح ليس مضمونا في مثل هكذا شركات خصوصا إذا كان من سيتولى الإشراف على تسييرها أو مجلس ادارتها هو من يتولّى اختيار المدربين وانتداب اللاعبين...
لقد أصبحت كرة القدم من ركائز الاقتصاد للبلدان التي تطبق نظام الاحتراف وبات لها نفوذ كبير في تحديد مسار الدول من النواحي السياسية والاجتماعية وهي المتنفس الكبير للبلدان المحتقنة سياسيا والتي توجد فيها مظاهر الفقر والمشكلات الاجتماعية.. لذلك حرصت الدول التي تقدر أهمية كرة القدم على إعداد أنظمة وقوانين حديثة تطوّر اللعبة والعائدات المالية وتحفظ حقوق النوادي والمدربين واللاعبين، وهو الأمر الذي ينطبق على الدول الأوروبية التي شهدت تطورا كبيرا في كرة القدم بعد أن تحولت من الهواية إلى الاحتراف منذ سنة 1886 في أنقلترا وبعدها فرنسا في بداية الحقبة الثانية من 1900 فما فوق وتبعتها الدول الأخرى، لذلك أصبحت هذه البلدان لا تقارن معنا اليوم لأنها وصلت إلى صناعة النجوم الكبار عبر الشركات المختلفة التي دخلت كشريك أساسي في شراء الأندية هناك بعدما استطاعت أن توجد البنية التحتية الصالحة وصارت تفكر اليوم في أنظمة جديدة من القوانين الوضعية تضعها لرفع مستوى كرة القدم، وبالتالي ما نراه اليوم من الانجازات العالمية التي تتحقق هناك كلها لهذه الأسباب الجوهرية.
وعليه نعتقد أننا أصبحنا اليوم أمام واقع لابد منه، واقع ليس لنا من خيار سوى الالتحاق به والنسج على منواله إذا ما أردنا لكرتنا أن تستمر وتعيش وتنهض، واقع يمكن التعامل معه بدراسات مسبقة وبحسابات دقيقة تعيش الواقع وتقدم النظريات العملية المدروسة التي تضمن النجاح وتؤسس لمرحلة جديدة مبنية على الأمور العلمية بعيدة كل البعد عن العشوائية والارتجالية التي دمّرت كرتنا وأدخلتها في أزمات مالية خانقة عجزت عن الخروج منها وتجاوزها.
إن الدخول في عالم الاحتراف لا يمكن أن يكون بجرّة قلم ولا بقرار سياسي أو نتيجة أهواء البعض، بل كان يفترض ان يكون ذلك مرتبطا بمدى توفر الشروط الأساسية لدخوله، من الإمكانات المادية وصولا إلى البنية التحتية وغيرها من الأساسيات التي يرتكز عليها النظام الاحترافي، كان لابد أن نخطو الخطوات من الصفر ولا ندخل من الشبّاك أو نقفز من الحائط للدخول في هذا العالم والأبواب موجودة للدخول منها..فكانت النتيجة فقرا مدقعا وأزمات خانقة وفشلا ذريعا وأخيرا وليس آخرا إضرابا وتهديدا بإيقاف نشاط البطولة.
بقلم: عادل بوهلال